أدلــة فرض الحجاب على نساء المؤمنين
معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة ــ رضى ا لله عنهم ــ فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها ، وتلقيها بالقبول ، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة ، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه ولا حاسرات عن شيء من الأبدان ولا متبرجات بزينة ، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلافي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة ، فمنعوا النساء من الخروج ، سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام ، وعصور الصحابة والتابعين لهم بإجسان، حكى ذلك جمع من الأئمة ، منهم الحافظ ابن عبد البر ، والإمام النووي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم ــ رحمهم الله تعالى ــ واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري ، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول .
قال الحافظ ابن حجر ــ رحمه الله تعالى ــ في " الفتج " : (9/224) : لم تزل عادة النساء قديما وحديثا أن يسترن وجوههن عن الأجانب " انتهى.
وكانت بداية السفور بخلع الخمار عن الوجه في مصر ، ثم تركيا ، ثم الشام ، ثم العراق ، وانتشر في المغرب الإسلامي ، وفي بلاد العجم ، ثم تطور إلى السفور الذي يعني الخلاعة والتجرد من الثياب الساترة لجميع البدن ، فإنا لله وأنا إليه راجعون .
وإن له في الجزيرة العربية بدايات ، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يكف البأس عنهم .
والآن إلى إقامة الأدلة :
أولا : الأدلة من القرآن الكريم :
تنوعت الدلائل من آيات القرآن الكريم في سورتي النور والأحزاب على فرضية الحجاب فرضا مؤبدا عاما لجميع نساء المؤمنين ، وهي على الآتي
الدليل الأول : قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) :
قال الله ــ تعالى ــ ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و قلن قولا معروقا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الاحزاب 32-33
هذا خطاب من الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك ، وإنما خص الله ــ سبحانه ــ نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب ؛ لشرفهن، ومنزلتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنهن القدوة لنساء المؤمنين ، ولقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يقو : ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا ...): ] التحريم /6[. مع أنه لا ــ يتوقع منهن الفاحشة ــ وحاشاهن ــ وهذا شأن كل خطاب في القرآن والسنة ، فإنه يراد به العموم ؛ التشريع ، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ما لم يرد دليل يدل على ا لخصوصية ، ولا دليل هنا ، كالشأن في قول الله ــ تعالى ــ لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) ]الزمر /65[.
ولهذا فأحكام هاتين الآيتين وما ماثلهما هي عامة لنساء المؤمنين من باب الأولى، مثل تحريم التأفف في قول الله ــ تعالى ــ ( فلا تقل لهما أف)]الإسراء/23[فالضرب محرم من باب الأولى . بل في آيتي الأحزاب لحاق يدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن ، وهو قوله ــ سبحانه ــ : (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ) وهذه فرائض عامة معلومة من الدين بالضرورة . إذا علم ذلك ففي هاتين الآيتين الكريمتين عدد من الدلالات على فرض الحجاب وتغطية الوجه على عموم نساء المؤمنين من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : النهي عن الخضوع بالقول :
نهى الله ــ سبحانه ـأمهات المؤمنين ــ ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك ــ عن الخضوع بالقول ، وهو تليين الكلام وترقيقه بانكسار مع الرجال ، وهذا النهي وقاية من طمع من في قلبه مرض شهوة الزنى وتحريك قلبه لتعاطي أسبابه ، وإنما تتكلم المرأة بقدر ا لحاجة في الخطاب من غير استطراد ولا إطناب ولا تليين خاضع في الأداء.
وهذا الوجه الناهي ن الخضوع في القول غاية في الدلالة على فرضية الحجاب على نساء المؤمنين من باب أولى ، وإن عدم الخضوع بالقول لا يتم إلا بداعي الحياء والعفة والاحتشام، وهذه المعاني كامنة في الحجاب ؛ ولهذا جاء الأمر بالحجاب في البيوت صريحا في الوجه بعده :
الوجه الثاني :في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) وهذه في حجب أبدان النساء في البيوت عن الرجال الأجانب .
هذا أمر من الله ــ سبحانه ــ لأمهات المؤمنين ــ ونساء المؤمنين تبع لهن في هذا التشريع ــ بلزوم البيوت والسكون والاطمئنان والقرار فيها؛ لأنه مقر وظيفتها الحياتية ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة أو حاجة .
وعن عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ قال : قال رسو ا لله صلى الله عليه وسلم " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي وابن حبان .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه ــ رحمه الله تعالى ــ: في " الفتوى : 15/297" : لأن المرأة يجب أنن تصان وتحفظ بما لا يجب ممثله في الرجل ؛ ولهذا خصت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة ، وترك التبرج ، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل ؛ لأن ظهورها للرجال سبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن " انتهى.
وقال ــ رحمه الله تعالى ــ في " الفتاوى : 15/379 ": " وكمال يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات ، فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس ، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه وقد ذكر ــ سبحاه ــ غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان ، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى: ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ) ]سورة النحل /81[. فكل منها وقاية من الأذى الذي يكون سموما مؤذيا كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك " انتهى.
الوجه الثالث : قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )
لما أمرهن الله ــ سبحانه ــ بالقرار في البيوت نهاهن ــ تعالى ــ عن تبرج الجاهلية بكثرة الخروج ،وبالخروج متجملات متطيبات سافرات الوجوه ، حاسرات عن المحاسن والزينة التي أمر الله بسترها، والتبرج مأخوذ من البرج ، ومنه التوسع بإظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر ، والذراع والساق ونحو ذلك من الخلقة أو الزينة المكتسبة ؛ لما في كثرة الخروج أو الخروج مع السفور من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة ، ووصف الجاهلية بالأولى وصف كاشف ، مثل لفظ : " كاملة " في قول الله ــ تعالى ــ ( تلك عشرة كاملة ) ]البقرة /196[ .
ومثل لفظ: " الأولى " في قوله ــ تعالى ــ : ( وأنه أهلك عادا الأولى ): ] النجم /50[.
والتبرج يكون بأمور يأتي بيانها في : " الأصل السادس " ــ إن شاء الله تعالى ــ.
الدليل الثاني : آية الحجاب :
قال الله تعالى : يا آيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلك كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحق من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليما . لا جناح عليهن في آبائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان علي كل شيء شهيدا ) الاحزاب53-55
الآية الأولى عرفت باسم : " آية الحجاب " لأنها أول آية نزلت بشأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ، ونساء المؤمنين ، وكان نزولها في شهر ذي القعدة سنة خمسن من الهجرة .
وسب نزوله ما ثبت من حديث أنس ــ رضي الله عنه ــ قال ، قال عمر ــ رضي الله عنه ــ : قلت يا رسول ا لله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل ا لله آية الحجاب " رواه أحمد والبخاري في الصحيح.
وهذه إحدى موافقات الوحي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــوهي من مناقبه العظيمة.
ولما نزلتا حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه عن الرجال الأجانب عنهن ، وحجب المسلمون نساءهم عن الرجال الأجانب عنهن ؛ بستر أبدانهن من الرأس إلى القدمين ، وستر ما عليها من الزينة المكتسبة ، فالحجاب فرض عام عل كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة ، وقد تنوعت دلالة هذه الآيات على هذا الحكم من الوجوه الآتية
الوجه الأول : لمات نزلت هذه الآية حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه ، وحجب الصحابة نساءهم، بستر وجوههن وسائر البدن والزينة المكتسبة , واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين ، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين ؛ ولهذا قال ابن جري ــ رحمه الله تعالى ــ في تفسير هذه الآية : "22/39" ." (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب "، يقول : وإذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج ، متاعا ، فاسألوهن من وراء حجاب ، يقول : من وراء ستر بينكم وبينهن .."
الوجه الثاني :في قولوه ــ تعالى ــ في آية الحجاب هذه ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) علة لفرض الحجاب في قوله ــ سبحانه ــ ( فاسألوهن من وراء حجاب ) بمسلك الإيماء والتنبيه ، وحكم العلة عام لمعلولها هنال ؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة ، مطلوبة من جميع المسلمين ، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين ، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة ــ رضي الله عنهن ــ.
فاتضح أن فرض ا لحجاب حكم عام على جميع النساء لا خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه ، وهل يقول مسلم : إن هذه العلة : ( ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) غير مرادة من أحد من ا لمؤمنين ؟ فيا لها من علة جامعة لمن تغادر صغير و الكبيرة من مقاصد فرض الحجاب إلا شملتها.
الوجه الثالث : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقصر أحكامها في دائرة أسبابها بلا دليل تعطيل للتشريع ، فما هو حظ المؤمن منها ؟!
يتبع<<
معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة ــ رضى ا لله عنهم ــ فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها ، وتلقيها بالقبول ، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة ، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه ولا حاسرات عن شيء من الأبدان ولا متبرجات بزينة ، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلافي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة ، فمنعوا النساء من الخروج ، سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام ، وعصور الصحابة والتابعين لهم بإجسان، حكى ذلك جمع من الأئمة ، منهم الحافظ ابن عبد البر ، والإمام النووي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم ــ رحمهم الله تعالى ــ واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري ، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول .
قال الحافظ ابن حجر ــ رحمه الله تعالى ــ في " الفتج " : (9/224) : لم تزل عادة النساء قديما وحديثا أن يسترن وجوههن عن الأجانب " انتهى.
وكانت بداية السفور بخلع الخمار عن الوجه في مصر ، ثم تركيا ، ثم الشام ، ثم العراق ، وانتشر في المغرب الإسلامي ، وفي بلاد العجم ، ثم تطور إلى السفور الذي يعني الخلاعة والتجرد من الثياب الساترة لجميع البدن ، فإنا لله وأنا إليه راجعون .
وإن له في الجزيرة العربية بدايات ، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يكف البأس عنهم .
والآن إلى إقامة الأدلة :
أولا : الأدلة من القرآن الكريم :
تنوعت الدلائل من آيات القرآن الكريم في سورتي النور والأحزاب على فرضية الحجاب فرضا مؤبدا عاما لجميع نساء المؤمنين ، وهي على الآتي
الدليل الأول : قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) :
قال الله ــ تعالى ــ ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و قلن قولا معروقا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الاحزاب 32-33
هذا خطاب من الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك ، وإنما خص الله ــ سبحانه ــ نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب ؛ لشرفهن، ومنزلتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنهن القدوة لنساء المؤمنين ، ولقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يقو : ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا ...): ] التحريم /6[. مع أنه لا ــ يتوقع منهن الفاحشة ــ وحاشاهن ــ وهذا شأن كل خطاب في القرآن والسنة ، فإنه يراد به العموم ؛ التشريع ، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ما لم يرد دليل يدل على ا لخصوصية ، ولا دليل هنا ، كالشأن في قول الله ــ تعالى ــ لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) ]الزمر /65[.
ولهذا فأحكام هاتين الآيتين وما ماثلهما هي عامة لنساء المؤمنين من باب الأولى، مثل تحريم التأفف في قول الله ــ تعالى ــ ( فلا تقل لهما أف)]الإسراء/23[فالضرب محرم من باب الأولى . بل في آيتي الأحزاب لحاق يدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن ، وهو قوله ــ سبحانه ــ : (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ) وهذه فرائض عامة معلومة من الدين بالضرورة . إذا علم ذلك ففي هاتين الآيتين الكريمتين عدد من الدلالات على فرض الحجاب وتغطية الوجه على عموم نساء المؤمنين من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : النهي عن الخضوع بالقول :
نهى الله ــ سبحانه ـأمهات المؤمنين ــ ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك ــ عن الخضوع بالقول ، وهو تليين الكلام وترقيقه بانكسار مع الرجال ، وهذا النهي وقاية من طمع من في قلبه مرض شهوة الزنى وتحريك قلبه لتعاطي أسبابه ، وإنما تتكلم المرأة بقدر ا لحاجة في الخطاب من غير استطراد ولا إطناب ولا تليين خاضع في الأداء.
وهذا الوجه الناهي ن الخضوع في القول غاية في الدلالة على فرضية الحجاب على نساء المؤمنين من باب أولى ، وإن عدم الخضوع بالقول لا يتم إلا بداعي الحياء والعفة والاحتشام، وهذه المعاني كامنة في الحجاب ؛ ولهذا جاء الأمر بالحجاب في البيوت صريحا في الوجه بعده :
الوجه الثاني :في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) وهذه في حجب أبدان النساء في البيوت عن الرجال الأجانب .
هذا أمر من الله ــ سبحانه ــ لأمهات المؤمنين ــ ونساء المؤمنين تبع لهن في هذا التشريع ــ بلزوم البيوت والسكون والاطمئنان والقرار فيها؛ لأنه مقر وظيفتها الحياتية ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة أو حاجة .
وعن عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ قال : قال رسو ا لله صلى الله عليه وسلم " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي وابن حبان .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه ــ رحمه الله تعالى ــ: في " الفتوى : 15/297" : لأن المرأة يجب أنن تصان وتحفظ بما لا يجب ممثله في الرجل ؛ ولهذا خصت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة ، وترك التبرج ، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل ؛ لأن ظهورها للرجال سبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن " انتهى.
وقال ــ رحمه الله تعالى ــ في " الفتاوى : 15/379 ": " وكمال يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات ، فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس ، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه وقد ذكر ــ سبحاه ــ غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان ، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى: ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ) ]سورة النحل /81[. فكل منها وقاية من الأذى الذي يكون سموما مؤذيا كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك " انتهى.
الوجه الثالث : قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )
لما أمرهن الله ــ سبحانه ــ بالقرار في البيوت نهاهن ــ تعالى ــ عن تبرج الجاهلية بكثرة الخروج ،وبالخروج متجملات متطيبات سافرات الوجوه ، حاسرات عن المحاسن والزينة التي أمر الله بسترها، والتبرج مأخوذ من البرج ، ومنه التوسع بإظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر ، والذراع والساق ونحو ذلك من الخلقة أو الزينة المكتسبة ؛ لما في كثرة الخروج أو الخروج مع السفور من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة ، ووصف الجاهلية بالأولى وصف كاشف ، مثل لفظ : " كاملة " في قول الله ــ تعالى ــ ( تلك عشرة كاملة ) ]البقرة /196[ .
ومثل لفظ: " الأولى " في قوله ــ تعالى ــ : ( وأنه أهلك عادا الأولى ): ] النجم /50[.
والتبرج يكون بأمور يأتي بيانها في : " الأصل السادس " ــ إن شاء الله تعالى ــ.
الدليل الثاني : آية الحجاب :
قال الله تعالى : يا آيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلك كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحق من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليما . لا جناح عليهن في آبائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان علي كل شيء شهيدا ) الاحزاب53-55
الآية الأولى عرفت باسم : " آية الحجاب " لأنها أول آية نزلت بشأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ، ونساء المؤمنين ، وكان نزولها في شهر ذي القعدة سنة خمسن من الهجرة .
وسب نزوله ما ثبت من حديث أنس ــ رضي الله عنه ــ قال ، قال عمر ــ رضي الله عنه ــ : قلت يا رسول ا لله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل ا لله آية الحجاب " رواه أحمد والبخاري في الصحيح.
وهذه إحدى موافقات الوحي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــوهي من مناقبه العظيمة.
ولما نزلتا حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه عن الرجال الأجانب عنهن ، وحجب المسلمون نساءهم عن الرجال الأجانب عنهن ؛ بستر أبدانهن من الرأس إلى القدمين ، وستر ما عليها من الزينة المكتسبة ، فالحجاب فرض عام عل كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة ، وقد تنوعت دلالة هذه الآيات على هذا الحكم من الوجوه الآتية
الوجه الأول : لمات نزلت هذه الآية حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه ، وحجب الصحابة نساءهم، بستر وجوههن وسائر البدن والزينة المكتسبة , واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين ، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين ؛ ولهذا قال ابن جري ــ رحمه الله تعالى ــ في تفسير هذه الآية : "22/39" ." (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب "، يقول : وإذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج ، متاعا ، فاسألوهن من وراء حجاب ، يقول : من وراء ستر بينكم وبينهن .."
الوجه الثاني :في قولوه ــ تعالى ــ في آية الحجاب هذه ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) علة لفرض الحجاب في قوله ــ سبحانه ــ ( فاسألوهن من وراء حجاب ) بمسلك الإيماء والتنبيه ، وحكم العلة عام لمعلولها هنال ؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة ، مطلوبة من جميع المسلمين ، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين ، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة ــ رضي الله عنهن ــ.
فاتضح أن فرض ا لحجاب حكم عام على جميع النساء لا خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه ، وهل يقول مسلم : إن هذه العلة : ( ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) غير مرادة من أحد من ا لمؤمنين ؟ فيا لها من علة جامعة لمن تغادر صغير و الكبيرة من مقاصد فرض الحجاب إلا شملتها.
الوجه الثالث : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقصر أحكامها في دائرة أسبابها بلا دليل تعطيل للتشريع ، فما هو حظ المؤمن منها ؟!
يتبع<<